ترامب وقناتا السويس وبنما- بين التصريحات النارية و القانون الدولي

المؤلف: د. عمرو هاشم ربيع09.06.2025
ترامب وقناتا السويس وبنما- بين التصريحات النارية و القانون الدولي

بكلمات مقتضبة تختزل الكثير، أعرب وزير الخارجية المصري، الدكتور بدر عبدالعاطي، عن رأيه المتحفظ بشأن التصريحات المتكررة التي يطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ اعتلائه سدة الحكم، والتي غالباً ما تتسم بالاندفاعية والآنية.

وقد أدلى الوزير بتصريحه هذا خلال اجتماع حافل بوفد مجلس أمناء الحوار الوطني، عُقد مساء الخامس والعشرين من شهر أبريل/نيسان لعام 2025، وهو الاجتماع الذي تشرفت بحضوره شخصياً.

وبالرغم من أن الحاضرين قد استحسنوا النبرة الحازمة التي تجلت في رد الوزير، إلا أن طموحاتهم كانت معلقة على موقف مصري رسمي أكثر وضوحاً وجلاءً، خاصة بعد ساعات قليلة فحسب، حينما أطلق ترامب تصريحاً أثار الاستغراب، قائلاً: "يجب أن يُسمح للسفن الأميركية بالعبور المجاني عبر قناتي بنما والسويس، فلولا الدعم اللامحدود من الولايات المتحدة لما كان لهما وجود. وقد كلفت وزير الخارجية ماركو روبيو بالتعامل الفوري مع هذا الملف الشائك".

دلالات طلب ترامب المرور المجاني

من المؤكد أن طلب ترامب لن يمر مرور الكرام على مصر، سواء على مستوى الحكومة أو في أوساط الشعب أو حتى في وسائل الإعلام، خاصة في بلد اعتاد أبناؤه على التندر والفكاهة حتى في أحلك الظروف وأصعبها.

ورأى العديد من المحللين والمراقبين أن طلب ترامب ما هو إلا امتداد لسلسلة من التصريحات الارتجالية التي بدأها منذ خطابه الأول أمام الكونغرس الموقر في الخامس من يناير/كانون الثاني الماضي؛ عندما أعلن عزمه على تغيير اسم خليج المكسيك ليصبح "خليج أميركا"، وانطلقت بعدها موجة متدفقة من التصريحات التي طالت دولاً عديدة مثل الدنمارك وكندا وبنما، ثم امتدت لتشمل الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي، وتحدثت عن إمكانية الاستيلاء على معادن أوكرانيا الثمينة مقابل الدعم العسكري المقدم لها.

ولم يكن أشد وطأة بين تلك التصريحات المثيرة للجدل، اقتراحه بتهجير الفلسطينيين قسراً وتحويل قطاع غزّة إلى مشروع عقاري أميركي ضخم، ثم ما تلا ذلك من إشعال فتيل حرب الرسوم الجمركية التي هددت اتفاقية الغات، والمناخ العام للعولمة التجارية التي تسعى إلى تذليل الحواجز بين الدول.

أهمية قناتَي بنما والسويس

إن لتصريحات ترامب حول قناتي بنما والسويس وقعاً خاصاً يختلف جوهرياً عن تصريحاته المتعلقة بالدنمارك وكندا. فالدولتان الأخيرتان تنتميان إلى صميم المعسكر الغربي، ولم تعرفا تجربة الاستعمار المريرة والطويلة التي عصفت بدول العالم الثالث. أما مصر وبنما، فإن وجدان شعبيهما متشبع بدماء الأجداد الذين ضحوا بأرواحهم دفاعاً عن السيادة الوطنية على ضفتي القناتين، مما جعلهما رمزاً خالداً لاستقلال الإرادة الشعبية.

ولذا، فإن تصريحات ترامب بشأن قناتي السويس وبنما تمس صميم الشعور الوطني لدى الشعبين، وتغذي فيهما نزعة الدفاع المستميت عن الكرامة والسيادة، على الرغم من التباين الواضح في الظروف التاريخية التي مرت بها العلاقة بين القوى الخارجية، وكل من الدولتين.

ولكن، على الرغم من أن المرء قد يتوهم بادئ الأمر أن تصريحات ترامب، بما يصبغ لهجته من إصرار وتحدٍّ، تمثل تصوراً راسخاً للسياسة الخارجية الأميركية، على غرار ما كان معهوداً في تصريحات الرؤساء الأميركيين السابقين. غير أن التدقيق المتأني – تاريخياً وحاضراً- يكشف أن معظمها كان مجرد كلام مرسل يفتقر إلى التخطيط المسبق والتشاور مع مؤسسات الدولة المعنية.

وخذ على سبيل المثال تصريحاته الصاخبة إبان ولايته الأولى، إذ كان من يسمعه يظنّ أن خططه الجريئة ستمضي إلى التنفيذ دون أدنى تراجع أو تردد، وذلك لفرط ما كان حديثه مشحوناً بالتحدي، وما كان لمنصبه الرفيع من سطوة ونفوذ على المسرح الدولي. ومع ذلك، سرعان ما كانت تلك التصريحات تذوب وتتلاشى أمام حسابات الواقع المعقدة. وليس أدل على ذلك من تصريحاته المدوية حول تأسيس حلف ناتو عربي، أو خططه الطموحة لما عُرف إعلامياً بـ "صفقة القرن".

واليوم، نحن إزاء مشهد مماثل إلى حد كبير: تصريحات متلاحقة بوتيرة متسارعة، ومشروعات طموحة تطلق ثم تنهار سريعاً، ومواقف درامية تتغير وتنقلب رأساً على عقب في لمح البصر. ألم يصرح يوماً عن قطاع غزة بأنه سيجعل منها ريفيرا جديدة؟ ألم يعلن حرب رسوم جمركية ضروس على الصين، ثم بدأ في التراجع التدريجي تحت وطأة العواقب الوخيمة؟

وهكذا، فإنّ السمة المميزة للسياسة الخارجية الحالية للولايات المتحدة هي التسرع والنزعة المزاجية، الأمر الذي يجعل هذه القوة العظمى تتورط في معارك غير محسوبة النتائج مع دول العالم شرقاً وغرباً، ثم تتراجع على استحياء حين تتكشف لها العواقب غير المتوقعة.

قنوات تحكمها الاتفاقيات الدولية

إن عمل قناتي السويس وبنما يخضع لمنظومة متكاملة من الاتفاقيات الدولية والظروف التاريخية الواضحة، وعلى الرغم من اختلاف السياقات بينهما، فإن المآل والمشروعية يعودان في نهاية المطاف إلى قواعد القانون الدولي الراسخة.

بدايةً، يجب التأكيد بأنه لا فضل للولايات المتحدة في تأسيس قناة السويس، خلافاً لما يدعيه ترامب. ففكرة الربط بين البحرين؛ الأحمر والمتوسط، تعود بجذورها التاريخية إلى عهد المصريين القدماء، إذ تشير بعض الروايات التاريخية -التي نقلها لنا المؤرخ الإغريقي الشهير هيرودوت وغيره من المؤرخين- إلى أن الفرعون العظيم سنوسرت الثالث من الأسرة الثانية عشرة (القرن التاسع عشر قبل الميلاد)، قد شرع بالفعل في شق ممر مائي يربط نهر النيل العظيم بخليج السويس، وهو ما عُرف لاحقاً بـ "قناة سيزوستريس"، وشهدت هذه الفكرة تجديداً وتطويراً عبر العصور اللاحقة، إذ عمل الملك نكاو الثاني، ثم الفرس بقيادة داريوس الأول على إصلاح هذا الممر المائي الحيوي، كما أُكملت تطوراته في العصر البطلمي الزاهر.

أما قناة السويس الحديثة، فقد أُعيد إحياء مشروعها الطموح في عهد والي مصر سعيد باشا في منتصف القرن التاسع عشر، بجهود حثيثة قادها المهندس الفرنسي المرموق فرديناند ديليسبس. وقد شاركت الولايات المتحدة الأميركية حينها إلى جانب دول أخرى عديدة في تمويل الامتياز الممنوح لشركة القناة، إلا أنها انسحبت لاحقاً بعد أن ارتأت أن المشروع غير مجدٍ اقتصادياً من وجهة نظرها، وهو الأمر الذي أدى بمصر إلى الاستدانة من الخارج لاستكمال عمليات الحفر والبناء.

ومن ثم، فإن ادعاء ترامب بأن القناة مدينة لأميركا هو ادعاء عارٍ تماماً من الصحة العلمية والتاريخية.

أما بالنسبة لقناة بنما، فالوضع يختلف إلى حد ما؛ فقد كانت الفكرة الأصلية لشق قناة عبر منطقة أميركا الوسطى فكرة مشتركة بين كل من البريطانيين والفرنسيين، إلا أن الولايات المتحدة الأميركية قد تولّت زمام المشروع بعد تخلي فرنسا عنه في نهاية القرن التاسع عشر. ولم تكن دولة بنما موجودة على الخريطة السياسية في ذلك الوقت، إذ كانت لا تزال جزءاً من كولومبيا.

وبعد استقلال بنما عام 1903 بدعم أميركي واضح، شرعت الولايات المتحدة الأميركية في إنشاء القناة، وظلّت تسيطر عليها بشكل كامل حتى عهد الرئيس الأميركي جيمي كارتر (1977-1981)، الذي وقّع اتفاقيات تاريخية لنقل السيادة الكاملة على القناة إلى بنما تدريجياً.

وتعدّ قناتا السويس وبنما من بين أهم الممرات البحرية الإستراتيجية على مستوى العالم، جنباً إلى جنب مع قناة كيل الواقعة في ألمانيا. وعلى الرغم من خضوعها في الأساس لمبادئ حرية الملاحة المنصوص عليها في قانون البحار لعام 1982، فإن لكل قناة خصوصيتها القانونية التي تحددها اتفاقيات منفصلة.

فقناة السويس، التي افتتحت رسمياً في 17 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1869، تعتبر قناة صناعية بالكامل تخترق أراضي دولة واحدة ذات سيادة، وهو ما يجعلها خاضعة للتشريعات المصرية الداخلية، فضلاً عن إطارها القانوني الدولي.

ويحكمها أساساً اتفاق القسطنطينية الشهير لعام 1888، الذي أكد على حياد القناة التام، واعترف بسيادة مصر الكاملة عليها، وأقر بحقها الأصيل في تحصيل رسوم المرور من السفن العابرة، مع منع أية أعمال عسكرية في محيط القناة، ومنح الدولة المصرية -ممثلة آنذاك في الخديوي والسلطان العثماني- الحق الكامل في اتخاذ التدابير اللازمة للدفاع عنها وحمايتها.

وقد تأكدت هذه السيادة المصرية الراسخة لاحقاً عبر معاهدة عام 1936، واتفاقيات الجلاء مع بريطانيا عامي 1936 و1954.

وعندما أعلن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر قراره التاريخي بتأميم القناة عام 1956، نصَّ بوضوح في المادة الأولى من قانون التأميم على تعويض جميع المساهمين وحملة الحصص، مما أقر استرداد حقوق الغير بشكل مشروع وعادل.

وقد رسّخت القوانين المصرية الحديثة حقوق السيادة والإدارة على القناة بشكل لا لبس فيه.

فقد نص القانون رقم 161 لسنة 1963 على إمكانية الحجز الإداري ضد السفن الممتنعة عن دفع الرسوم المستحقة عليها.

كما أكدت المادة الثامنة من القرار الجمهوري رقم 30 لسنة 1975، أن هيئة قناة السويس هي الجهة الوحيدة المختصة بفرض رسوم العبور على السفن العابرة.

وأبرزت المادة الرابعة عشرة من القرار نفسه مبدأ المساواة التامة بين جميع السفن والأشخاص دون أدنى تمييز، إذ جاء فيها صراحة:

"لا يجوز للهيئة أن تمنح أية سفينة أو أي شخص طبيعي أو اعتباري أية فوائد أو ميزات خاصة لا تمنح لغيرها من السفن أو الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين في نفس الأحوال". وهذه المادة بالتحديد تمنع السلطات المصرية منعاً باتاً من تقديم أي امتياز خاص للولايات المتحدة الأميركية، أو غيرها من الدول، ضماناً لالتزام الحياد وعدم الإخلال بأي شكل من الأشكال بقواعد القانون الدولي المرعية.

أما قناة بنما، فتحكمها ثلاث اتفاقيات تاريخية هامة هي: اتفاقية هاي-بونسيفوت مع بريطانيا، واتفاقية هاي-هيران مع كولومبيا، واتفاقية هاي-بنوفاريا مع بنما.

وقد منحت هذه الاتفاقيات الولايات المتحدة الأميركية، في بدايات القرن العشرين، حقوقاً واسعة النطاق على القناة.

غير أن المقاومة الشعبية البنمية الشرسة للهيمنة الأميركية تصاعدت باضطراد مع مرور الزمن، حتى وقّع الرئيس الأميركي كارتر اتفاقيات تاريخية لتسليم القناة كاملة إلى السيادة البنمية في أواخر السبعينيات من القرن الماضي.

ومع ذلك، عادت التوترات لتطل برأسها مؤخراً عندما اتهمت واشنطن بنما بمحاباة الصين في رسوم مرور السفن، وهو ما أثار حفيظة الإدارة الأميركية وغضبها.

دوافع ترامب التجارية

إذا أمعنا النظر بعين فاحصة، فإن تصريحات ترامب الأخيرة لا تنمّ بأي حال من الأحوال عن عقيدة سياسية عميقة الجذور، بقدر ما تعكس رؤية تجارية بحتة للعالم من حوله. فالرئيس ترامب يعتبر دور أميركا الدولي بمثابة منصة سانحة لتحقيق أرباح مالية طائلة، ولا يكترث كثيراً لما يتطلبه دور القيادة العالمية من التزامات أخلاقية ومبادئ إنسانية سامية.

وما يجمع بين مواقفه المتقلبة والمتغيرة – من دعمه المطلق لإسرائيل إلى طموحاته التجارية الجامحة عبر أرجاء المعمورة- هو الرغبة الدفينة في تحقيق الربح المادي بأي ثمن، حتى لو كان الثمن هو زعزعة استقرار النظام الدولي القائم.

وفيما يخصّ جمهورية مصر العربية، فإنّ تراجع الدعم الأميركي لها لا يعني بالضرورة مأزقاً خانقاً لا مخرج منه؛ فمصر العظيمة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك قدرتها الفائقة على تنويع مصادر تسليحها، والتعاون المثمر مع دول عظام مثل الصين، وكوريا الجنوبية، وروسيا، وفرنسا، وغيرها من الدول الصديقة.

أما دولة بنما، فعلى الرغم من خطئها الفادح المتمثل في تمييز الرسوم المفروضة على السفن، فإن من غير المرجح على الإطلاق أن تتكرر تجربة الغزو العسكري الأميركي لها، كما حدث في أواخر ثمانينيات القرن الماضي.

وهكذا، فإن تصريحات ترامب المثيرة للجدل تمضي إلى مصير مماثل لسابقاتها: فورة عارمة تنطفئ تدريجياً، وضجيج هائل يخفت مع مرور الوقت، دون أن يتركا أثراً ملموساً على أرض الواقع في معادلات القوة والسيادة بين الدول.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة